منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة
تسجيلك في هذا المنتدى يأخذ منك لحظات ولكنه يعطيك امتيازات خاصة كالنسخ والتحميل والتعليق
وإضافة موضوع جديد والتخاطب مع الأعضاء ومناقشتهم
فإن لم تكن مسجلا من قبل فيرجى التسجيل، وإن كنت قد سجّلت فتفضّل
بإدخال اسم العضوية

يمكنك الدخول باستخدام حسابك في الفيس بوك



ستحتاج إلى تفعيل حسابك من بريدك الإلكتروني بعد تسجيلك هنا
التسجيل بالأسماء الحقيقية ثنائية أو ثلاثية وباللغة العربيّة فقط
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين

تهتم بـ الفلسفة والثقافة والإبداع والفكر والنقد واللغة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
تعلن إدارة المنتديات عن تعيين الأستاذ بلال موقاي نائباً للمدير .... نبارك له هذه الترقية ونرجو من الله أن يوفقه ويعينه على أعبائه الجديدة وهو أهل لها إن شاء الله تعالى
للاطلاع على فهرس الموقع اضغط على منتديات تخاطب ثم انزل أسفله
» هات يدك    فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-12-13, 15:27 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» بين «بياجيه» و «تشومسكي» مقـاربة حـول كيفيـة اكتسـاب اللغـة   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-12-03, 20:02 من طرف سدار محمد عابد» نشيد الفجر   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-30, 14:48 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» الرذ والديناصور   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-02, 18:04 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزة   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 18:42 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سلاما على غزة   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 18:40 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شهد الخلود   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 18:35 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تهجير   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 18:23 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تقرير من غزة    فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 18:18 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» القدس لنا   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 17:51 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» يوم في غزة    فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 17:45 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» شعب عجب   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-11-01, 17:41 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» سمكة تحت التخدير   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-10-07, 15:34 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» تجربة حب   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-09-16, 23:25 من طرف عبدالحكيم ال سنبل» زلزال و اعصار   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2023-09-14, 05:44 من طرف عبدالحكيم ال سنبل

شاطر
 

  فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد بكاي التلمساني
عضو شرف
عضو شرف


وسام النشاط :
وسام النشاط

القيمة الأصلية

البلد :
الجزائر

عدد المساهمات :
210

نقاط :
602

تاريخ التسجيل :
15/08/2010

المهنة :
باحث وكاتب


   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 Empty
مُساهمةموضوع: فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02      فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 I_icon_minitime2010-10-04, 23:17

6- اللغة الطبيعية في فلسفة فيتجنشتين الثانية:

هناك كثير من المؤشرات تدل بوضوح على أن التحول الجذري الذي عرفته أفكار فيتجنشتين الأخيرة إنما يرجع في مجمله إلى تغييره للبراديجم اللغوي الذي أسس عليه كتابه الرسالة. وإذا بدا واضحا أنه أصبح يرد الاعتبار، منذ الفترة الانتقالية، للغة الطبيعية، فلأنه لم يعد مقتنعا بالنمذجة التي اقترحها للغة قبل ذلك الحين.

لقد اعتقد فيتجنشتين، أثناء فلسفته الأولى، أن اللغة نوعان: "لغة أولية" أو فينومينولوجية تعبر عما نعرفه حقيقة، أي عن الظواهر؛ ولغة يومية أو "ثانوية" تستعمل في تداولاتنا العادية. وكان على اقتناع آنذاك بأن ثمة ضربا من التعارض يفرق بينهما. إلا أنه سيتخلى لاحقا عن هذه النمذجة ليقر بأن لا لغة إلا اللغة اليومية(50). ويبدو أن هذا التحول سيكون على حساب "اللغة الفينومينولوجية"، إذ سينفي وجود هذا النوع من اللغة ليحتفظ فقط باللغة المادية التي يراها مطابقة للغة اليومية.

ولعل الناظر في مسار فلسفة فيتجنشتين سوف لن يقف به نظره عند هذا الحد، فهو سيجد حتما مواقف متقلبة بشأن اللغة وأحيانا "متناقضة" مع بعضها البعض. بيد أن الكثير من هذه المواقف قد تتجلى إذا أدركنا أن فيتجنشتين قد تبنى في فلسفته الأولى "تعريفا إشاريا" للغة مناسبا، من حيث بنيته، لمنطق الرسالة الذي يسند للكلمة دور الإشارة إلى الواقع. وسيشرع تدريجيا في التقليص من حجم هذا النموذج الإشاري بعد أن بدأت تتأكد له أهمية ألاعيب اللغة، الأمر الذي سيبرز أكثر في فلسفته الأخيرة.

وبوسعنا أن نقول إن نظرية ألاعيب اللغة قد تبلورت عنده في شكلها النهائي في كتابه المباحث الفلسفية بعد أن أصبحت تمثل المجال الرئيسي لتعلم اللغة وقيام الدلالة. لذلك لن نستغرب إذا وجدناه يقول: "اعتبروا لعب اللغة كعنصر أولي"(51). ففي هذه الإشارة تأكيد صريح منه على أن ألاعيب اللغة قد أضحت الآن البراديجم اللساني الأساسي لتفسير معظم قضايا اللغة. لكن يحق لنا أن نضيف إلى ما سبق أن المنزلة الخاصة التي تتبوؤها ألاعيب اللغة هي التي تفسر، في الغالب، ازدياد وعي "فيتجنشتين الثاني" بقدرات وإمكانات اللغة الطبيعية.

هكذا، عندما يدعو فيتجنشتين إلى ضرورة العودة باللغة من استعمالها الميتافيزيقي إلى استعمالها اليومي، فهو يرد الاعتبار للغة الطبيعية، وفي الوقت نفسه يجدر التفكير الفلسفي في أرضية المسائل "البسيطة" و"العامية"، سيما أن مهمة الفلسفة تقوم بالأساس على تعرية الجوانب غير الواضحة في مجال ما يتم اعتباره عادة شيئا "بديهيا": "إن مظاهر الأشياء الأهم بالنسبة لنا تظل مخيفة لبساطتها وعاميتها. (وهذا أمر لا يمكن ملاحظته لأنه يقع دوما تحت أبصارنا"(52).

لنفس الاعتبار تحرص المباحث على التنبيه لأشكال الزيف التي تمارسها الصيغ اللغوية على أصحابها، خصوصا عندما تكون هذه الصيغ متجذرة ومترسبة لدى مستعمليها. فالواقع أن كتاب المباحث لا يتخلى فقط عن بعض مظاهر الصرامة المنطقية التي طبعت الرسالة بل يعمد فضلا عن هذا إلى قياس دلالات العبارة انطلاقا من استعمالاتها. وليس من شطط القول إن ذهبنا مع معظم دارسي فيتجنشتين إلى حد القول بوجود هوة سحيقة بين الرسالة وبين المباحث. فهذا التباين الشديد بين الكتابين يشهد في الواقع على التباين الصريح بين "فيتجنشتين الأول" و"فيتجنشتين الثاني". ولا يسع القارئ حين يقارن بين الكتابين إلا أن يكتشف بنفسه وجود فروق حقيقية بين الإثنين: فعلى حين تختص الرسالة بالحديث عن اللغة في وضعها المنطقي، تنشغل المباحث بفحص آلاعيب اللغة واستعراض تعدد استعمالاتها. وفي الوقت الذي يهتم "فيتجنشتين الأول" بمعرفة ما تسمح اللغة عموما بقوله يهتم "فيتجنشتين الثاني" بإظهار تنوع استعمالات اللغة العادية، حيث يبدو كما لو أن اهتمامه قد انتقل من اللغة في حدودها المنطقية إلى اللغة من حيث هي عبارات تدور في اللسان الطبيعي. وقد لا نحتاج إلى جهد كبير لبيان أن "فيتجنشتين الثاني" باتت تؤرقه، في المقام الأول، قواعد التداول التي تنضبط لها اللغة الطبيعية.

صحيح أن الرسالة لن تخفي بدورها تعقد "اللغة المألوفة بدليل أنها سترى أن من المستحيل إنسانيا أن نستخلص منها مباشرة منطقا للغة"(53)، إلا أن المباحث هو الكتاب الرئيسي الذي تولى فيه فيتجنشتين عرض التلوينات التي تنطوي عليها اللغة اليومية في ارتباط دائم بنظرية ألاعيب اللغة.

فعلا، لقد اعتبرت الرسالة أن أفضل طريقة فلسفية هي "ألا يقال قط سوى ما يمكن قوله"(54) لأن الحل يقوم في نظرها على التمييز بصرامة بين "ما يمكن التكلم عنه" و"ما يمكن فقط الإشارة إليه". والظاهر أن الرسالة لا تخفي ميولاتها القطعية، فهي تقترح حلولا جازمة لكثير من المشاكل الفلسفية، فضلا عن كونها تصدر عن تقطيعات حاسمة ونهائية: فهي لا تجد بدا من الإقرار بوجود فضاء منطقي يحتوي كل ما في العالم؛ ولا ترى مانعا من تأكيد حدود اللغة. لذلك يقول فيتجنشتين" "إن المنطق يملأ العالم: فحدود العالم هي أيضا حدوده. ونتيجة لذلك لا نستطيع أن نقول في المنطق: هناك هذا الشيء أو ذاك في العالم وليس ذاك، لأن قول هذا يفترض فعلا أننا نقصي بعض الإمكانيات، وهو ما لا يجوز لأن على المنطق، في هذه الحالة، أن يتجاوز حدود العالم إذا أمكن له أيضا أن يحيط بهذه الحدود من الجهة الأخرى. والحال أن ما لا نستطيع التفكير فيه، لا نملك القدرة على التفكير فيه؛ وبالتالي لا نستطيع قول ما لا نستطيع التفكير فيه"(55). وحيث إن "المنطق يملأ العالم"، فإن جواز التفكير "فيما وراء المنطق" يظل مستبعدا تماما لأن ما لا نستطيع التفكير فيه لا يدخل البتة في دائرة ما يمكن التكلم عنه.

لكننا حالما ننتقل مع فيتجنشتين إلى المباحث الفلسفية، سيتضح أن هذا الإطار المنطقي الصارم بدأ يتضاءل؛ إذ كيفما كان الحال فإن مقاربة المباحث لقضايا الفلسفة تتسم بكثير من المرونة وباللاوثوقية قياسا بالرسالة؛ فضلا عن ذلك فإن تناولها لهذه القضايا من حيث هي مستويات لألاعيب اللغة، كفيل بتخليصها من التقطيعات الجازمة التي عمدت إليها الرسالة. فلقد فطن فيتجنشتين في فلسفته الأخيرة إلى تنوع وتعقد قواعد الاستعمال الطبيعي للغة. وليس من المبالغة في شيء القول إن اعتناءه بتحديد كيفيات ومقامات تأدية بعض العبارات الطبيعية لوظيفتها الدلالية(56)، يسير في نفس الاتجاه الذي يرمي إليه حين يتعقب بعض الصيغ المألوفة في خطاب الفلاسفة، مادام الهدف من هذا كله هوإبراز تلوينات اللغة الطبيعية.

وعلى هذا، فإن كيفية تعامل الرسالة مع اللغة الطبيعية تخالف كيفية تعامل المباحث معها. فعلى الرغم من أن الرسالة لا تسقط من حسابها تعقد التوفيقات المضمرة التي يستلزمها فهم اللغة المألوفة(57)، فإنها لم تكن لتخفي رغبتها في المضي وراء اللغة الطبيعية إما لتفادي "الالتباسات الأساسية" التي توقع فيها الفلسفة مخاطبيها وإما لاقتراح "لغة رمزية" تستجيب للنحو المنطقي(58). أما في المباحث فإن التعامل مع اللغة الطبيعية يتخذ وضعا آخر، إذ يحرص فيتجنشتين على ألا تمس الفلسفة "الاستعمال الفعلي للغة" وأن تقتصر فقط على وصفها بترك كل الأشياء كما هي دون التدخل فيها انسجاما مع تصور عام يرى أن الفلسفة لا تملك القدرة على تأسيس هذه اللغة(59).

ولا تقف المباحث عند هذا الحد، فهي تريد أن تبين بأن اللغة الطبيعية تمثل معيارا حقيقيا لكل الأشكال التعبيرية الأخرى التي تروم الاتصاف بمواصفات اللغة، لأن نعت هذه الأشكال بخصائص اللغة إنما يتم على سبيل المشابهة أو المقاربة بلغتنا العادية(60). وقد لا نعدم الصواب إذا نحن سلمنا بأن هذه الفكرة حاضرة بقوة سواء في فلسفته الانتقالية أو في فلسفته الأخيرة. ففي إحدى الملحوظات التي جمعها فايزمان ضمن كتاب لودفيج فيتجنشتين وحلقة فيينا، يدافع فيتجنشتين عن اللغة الطبيعية، ولا يرى من سبيل لذلك سوى بإعلانها اللغة الوحيدة: "أظن أننا لا نملك في الجوهر سوى لغة واحدة، إنها اللغة العادية. إننا لسنا بحاجة إلى خلق لغة جديدة أو بناء نظام رمزي، فاللغة اليومية هي قبل كل شيء اللغة بصيغة المفرد شريطة تخليصها من مظاهر الغموض التي تتخللها. والواقع أن لغتنا تتوفر مسبقا على نظام، شريطة أن تكون لنا أفكار واضحة بشأن ما ترمز إليه"(61).

7- من الحساب والقواعد إلى ألاعيب اللغة: نحو مدلول جديد للنحو:

إن ما يثير الانتباه هو أن فيتجنشتين يستخدم كلمة "نحو" بمعنى واسع جدا بحيث تصبح "القواعد النحوية" مرادفة لكل المستويات التي تدخل في استعمال اللغة، بما في ذلك المستويات الصورية وغير الصورية. لكن إذ شئنا تضييق هذا الاستخدام قليلا، فنحن ملزمون بالقول إن النحو، في الاصطلاح الذي تعطيه إياه أعمال فيتجنشتين التي تلت الرسالة، هو هذا الحقل الذي يصف الرباط القائم بين اللغة والواقع. وبفعل هذا فإن "القواعد النحوية" تتخذ معنى دلاليا مادامت تختص بوصف العلاقة التي تجمع بين اللغة والواقع.

لهذا، قد لا نجد حرجا في القول إن النحو، في التحديد الذي يعطيه إياه فيتجنشتين، يخص الدلاليات أكثر مما يخص البناء الداخلي للغة، لاعتبار أساسي هو أنه لا يتولى فحص القواعد التي تهم "ما هو داخل اللسان" بقدر ما يتولى فحص قواعد لعب اللغة التي تهم "ما هو خارج اللسان". ويبدو أن هذا ما ترمي إليه هذه الشذرة التي يقول فيها فيتجنشتين: "إن النحو لا يتكلم عن الكيفية التي ينبغي أن تبنى بها اللغة لكي تملأ وظيفتها وتؤثر بهذه الكيفية أو تلك على الناس. إنه يكتفي بوصف استعمال الدلائل ولا يعمد إلى شرحها بأية كيفية من الكيفيات"(62).

صحيح أن هذه الشذرة لا تفصح صراحة عن التحديد الدلالي، لكنها كافية في حد ذاتها للإيحاء بإحدى الأفكار المحورية التي تدور حولها المباحث: نعني المطابقة التي أقامها فيتجنشتين بين الدلالة والاستعمال. وهي فضلا عن هذا، تشير بشكل صريح إلى استبعاد التصور الذي يطلق النحو على الكيفية التي تبنى بها اللغة "داخليا"، إذ أن مقصد النحو هو وصف الرباط الذي يجمع بين اللغة وبين مجال "خارج-لساني". ونحن نرى بدورنا أن هذا المعنى الخاص الذي يسقطه فيتجنشتين على النحو هو الذي تفي به الشذرة التالية المتقطفة من كتاب الجدادات Zettel: "ينبغي الكشف عن الانسجام بين الفكر والواقع ضمن نحو اللغة كما هو الشأن بالنسبة لكل ما هو ميتافيزيقي"(63).

ولم يقتصر فيتجنشتين على اللجوء إلى لفظ "النحو" بل تعداه إلى استعمال مفهوم "الحساب" في سياق ذي علاقة بالنحو. فبالرغم من المحيط الرياضي الذي يستمد منه هذا المفهوم معناه، لم يجد فيتجنشتين أي حرج في إقحامه ضمن مجال اللغة منذ ما يتعارف على تسميته بفلسفته الانتقالية؛ إذ بما أن التركيب (النحو) يشمل نسق قواعد اللعب، فإن مفهوم الحساب يستمد صلاحيته من هذا التحديد ذاته اعتبارا لأنه ليس في النهاية سوى نسق القواعد التي تنظم ألاعيب اللغة.

بهذا المعنى يستخدم مفهوم الحساب في كتابه النحو الفلسفي: "إن الشخص الذي يؤول أو يفهم دليلا ما بهذا المعنى أو ذاك، ينجز عملية داخل الحساب (كعملية الجمع الحسابية). إنه يقوم تقريبا بنفس الشيء عندما يعمل على التعبير عن تأويله"(64). وإذا وضعنا في الحسبان أن النحو عند فيتجنشتين يخص الدلاليات مادام يصف الرباط القائم بين اللغة والواقع، فإن علاقة الحساب بالنحو تستقيم وتتضح حالما نفهم أن الحساب هو العنصر الذي يربط بين الفكر (اللغة) والواقع الخارجي؛ كما نفهم في الآن نفسه لماذا اختار بالضبط تناول التفكير كحساب(65). وهذا هو بالتحديد ما تقوله فقرة من نفس الكتاب: "إن حساب الفكر يرتبط بالواقع خارج الفكر"(66).

صحيح أن فيتجنشتين سيقلص لاحقا من استعماله لمفهوم الحساب في الكتابات التي مثلت فلسفته الأخيرة دون أن يتخلى عنه نهائيا، صحيح أيضا أن هذا التقليص سيكون لصالح مفهوم "ألاعيب اللغة" بعد أن أضحى هذا الأخير المفهوم المحوري الذي يجسد علاقة اللغة بالواقع، إلا أن هذا لم يمنع من وجود نصوص استخدم فيها فيتجنشتين مفهوم الحساب بمعنى قريب جدا من المعنى الذي أعطاه لألاعيب اللغة. وإذا كان هذا يشهد على شيء فإنما يشهد في الواقع على التقارب الذي أقامه بين الحساب وبين اللعب خصوصا في فلسفته الانتقالية. فهو حين يختار النظر لدلالة كلمة ما من زاوية تجعل هذه الدلالة مماثلة للدور الذي تلعبه الكلمة في "حساب اللغة"، ما يلبث أن يقارن الكلمة بقطعة من قطع لعبة الشطرنج لتأكيد التقارب الحاصل بين الحساب وألاعيب اللغة.

لكن من حقنا أن نتساءل هنا: ألا يتعارض مفهوم "الحساب" مع "ألاعيب اللغة؟ فالواقع أن لهذا التساؤل مسوغاته، خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار أن أي "حساب" إلا ويقتضي نوعا من القواعد؛ في حين نعلم أن فلسفة فيتجنشتين الثانية ستجهد في نفي القواعد المتميزة عن مجال ألاعيب اللغة، وستذهب أبعد من هذا من خلال التأكيد على أن ألاعيب اللغة سابقة ومتقدمة على قواعدها. ورغم هذا فإن فيتجنشتين لم يكن يرى بأسا في الجمع بين الحساب وألاعيب اللغة. ومهما كان الأمر، فإن الظاهر أن المباحث لم تتردد عن استعمال هذين المفهومين جنبا إلى جنب؛ وليس من المستبعد على الإطلاق أن تكون قد قصرت استعمالها للحساب على المجال الذي يخص "القواعد الثابتة" أو "القواعد المحددة" دون غيرها من المجالات الأخرى(67).

غير أن استيعاب هذا الفرق بين موقفي فيتجنشتين يتطلب، مرة أخرى، وضعه في سياق التعديلات التي أجراها على أفكاره الأخيرة، إذ لا ينبغي أن يفوتنا أنه قد أولى في فلسفته الانتقالية دورا مركزيا للقواعد؛ في حين اتجه في فلسفته الأخيرة إلى البحث للدلاليات عن أسس في ألاعيب اللغة. ولئن جاء حديثه عن "القواعد" حديثا صريحا حتى في مواقفه الأخيرة، فإن إقحامه لها بات يتم داخل ألاعيب اللغة بعد أن أضحت هذه الأخيرة مجال العلاقات الإسقاطية التي تتم بين اللغة والواقع.

والحال، أن الأمر لا ينطوي هنا على أي تناقض. فإذا أخذنا بالتصور الذي يأخذ به جاكو وميريل هنتيكا، لوجدنا أن فيتجنشتين قد "تطور" من الموقف الذي يعد "القواعد" بمثابة وسائط بين اللغة والعالم إلى موقف ثان يعتبر ألاعيب اللغة هي ذاتها هاته الوسائط. وهما يريان أن بعض مقاطع المباحث تسجل فعلا نقطة التحول النهائي في هذا "الطور" الذي مكن فيتجنشتين من تحقيق التحول من فلسفته الانتقالية إلى فلسفته الأخيرة، أي من تصور يمنح القواعد دور الوسائط إلى تصور آخر ينيط فيه ألاعيب اللغة بمهمة لعب هذا الدور.

إذا سلمنا إذن بهذا التصور الذي يتبناه جاكو وميريل هنتيكا، فسيسهل علينا بعدئذ استساغة هذه المكانة المتميزة التي تحظى بها ألاعيب اللغة في المباحث: فلقد شرع فيتجنشتين، في رأيهما، بادئ الأمر في ربط الأفعال والأنشطة اللالغوية بدائرة ألاعيب اللغة. وكان استعماله آنذاك لهذا المفهوم غير واضح بما فيه الكفاية؛ فهو حين تكلم لأول مرة عن ألاعيب اللغة. كان غرضه يقتصر على توجيه الانتباه إلى الدور الذي تلعبه القواعد في استعمال اللغة. أما دور ألاعيب اللغة فقد كان ضعيفا وثانويا مقارنة بالدور الذي كان يعطيه للقواعد. والظاهر أن فيتجنشتين، رغم استعماله لمفهوم "اللعب" لم يكن يدرس في فلسفته الانتقالية قواعد اللعب سوى لغرض استثمارها في دراسة القواعد النحوية. فهي لم تكن تمثل سوى نماذج مبسطة مشيدة على نحو اصطناعي لكي تقارن مع اللغات الطبيعية.

أما بوادر التحول الهائل الذي عرفه موقفه، فلن يتحقق بادئ الأمر سوى في كتابه الدفتر الأسمر، إذ أنه لأول مرة ستصبح ألاعيب اللغة مرتبطة بتعلم اللغة؛ وهو تحول على قدر كبير من الأهمية لأنه يشهد على الصياغة النهائية التي ستأخذها هذه المسألة في فلسفته الأخيرة. كما أن ألاعيب اللغة لن تؤخذ بعد الآن كمجرد نماذج لغرض مقارنتها باللغات الطبيعية، بل على العكس ستؤخذ كأنساق مستقلة بذاتها. وهذا بدوره لن يغدو ممكنا إلا بعد أن تخلى فيتجنشتين عن النظرية الإشارية، التي حكمت فهمه السابق للغة، لصالح تصور آخر صارت فيه ألاعيب اللغة تقوم بتشكيل العلاقة الدلالية بين الكلمات والواقع(68).

ومن الجدير بالانتباه أن تناوله سواء للقواعد أو لألاعيب اللغة أصبح يجري في الغالب داخل سياق تعلم اللغة. فقد لا نستغرب إن وجدناه يلح باستمرار على البعد التعلمي. فهو يقول: "لا يمكن لي أن أصف كيف يجب استعمال قاعدة ما بصفة عامة سوى بتعليمك وترويضك على استعمال قاعدة معينة"(69). والأصل في هذه النتيجة هو أن فيتجنشتين يجهد في بيان عدم وجود قواعد مسبقة لاستعمال القواعد النحوية. فليس هناك من قاعدة محددة لاستعمال هذه القواعد سوى التعلم. وهذا في تقريرنا سيكون واحدا من بين الأسباب التي دفعته إلى منح ألاعيب اللغة أسبقية منطقية على القواعد، بدليل أن من الممكن تعلم اللغة دون معرفة بقواعدها؛ إذ من "الممكن أن نتخيل بأن فردا ما قد تعلم اللعب دون أن يسبق له تعلم أو صياغة القواعد"(70).

ومن المعلوم أن المباحث لم تحصر قط عدد ألاعيب اللغة بل اعتبرتها، على العكس، من التنوع والتباين بحيث يستحيل إحصاء كل أنواعها أو اقتراح نمذجة تامة ونهائية لها. فضلا عن هذا، فقد أفسحت المجال واسعا أمام "اللعب اللغوي البدائي" معتبرة إياه ضروريا في مجال تعلم اللغة(71). كما قبلت بكل أنواع "اللعب اللغوي اليومي" وجعلته ذا قيمة تعليمية. وقد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن هذه الإشكالية، التي تعرض لقواعد النحو وألاعيب اللغة، لا تستقيم إلا بوجود أطر لسانية-ثقافية وليدة التربية والمواضعة.

فعلا، يقيم فيتجنشتين ترابطا قويا بين اللعب وبين القواعد التحكمية؛ ويعتبر هذا الترابط مظهرا للحرية التي يختص بها استعمال اللغة. وإلى هذا يذهب حين يقارن بين قواعد النحو وقواعد المطبخ حين يقول: "لماذا لا أسمي قواعد المطبخ قواعد تحكمية، ولماذا أنا مدعو إلى تسمية قواعد النحو قواعد تحكمية؟ السبب هو أن "المطبخ" محدد بالغايات التي ينشدها، في حين أن "الكلام" غير محدد بذلك، لهذا فإن استعمال اللغة مستقل بمعنى ما من المعاني، وهو بالضبط المعنى الذي لا نجده في المطلخ أو الغسيل. فأنت حين تطبخ بناء على قواعد أخرى غير القواعد الصحيحة، تنجز طبخا سيئا؛ لكنك حين تلعب وفق قواعد أخرى غير قواعد الشطرنج، تلعب لعبا آخر؛ وحين تتكلم بناء على قواعد نحوية أخرى غير هذه القواعد أو تلك، لا تتكلم مع ذلك بشكل خاطئ وإنما تتكلم عن شيء آخر"(72).

لا مجال للخلط إذن بين القواعد التحكمية والقواعد الأخرى التي تنتفي فيها هذه الخاصية. فالتقابل الذي يقيمه فيتجنشتين هنا تقابل رئيسي، إذ على ضوئه يبدو الفرق بين الحالات التي يكون فيها التقيد المسبق بقواعد محددة شأنا ضروريا لوجود الفعل المنشود، وبين الحالات التي يكون التصرف في القواعد أو عدم الالتزام بعرفيتها شأنا مولدا لألعاب أخرى. في الحالات الأولى (أي في مثال الطبخ) يكون النشاط المنجز مطالبا بالتطابق مع القاعدة. أما في الحالات الثانية (أي في مثال اللغة ولعبة الشطرنج) فإن النشاط المنجز لا يشترط فيه بالضرورة التطابق مع قاعدة موضوعة سلفا لأن التحرر من القواعد لا يعني، في هذه الحالة، فساد القول أو خطأ اللعب بقدر ما يعني أننا ها هنا أمام أوضاع ومقامات أخرى.

والحال أن الناظر في هذه الدعوى التي يذهب إليها فيتجنشتين، قد لا يخفى عليه وجه الشبه بينها وبين دعوى مماثلة سيذهب إليها سورل في كتابه أفعال الكلام. ولئن كنا نقر مسبقا بأن دعوى سورل توضع تحديدا في سياق آخر غير سياق فيتجنشتين، فإننا لا نرى في المقابل بدا من الاعتراف بأن مقصدها العام ينشأ على نفس الإشكال الذي بلور فيه فيتجنشتين هذه القضية، سيما أن سورل ينطلق من افتراض مفاده أن تكلم لغة ما معناه إنجاز أفعال موافقة لقواعد معينة.

وعلى الإجمال، فإن النقطة التي نعنيها بشكل خاص تتركز على التمييز الذي وضعه سورل بين "القواعد التكوينية" و"القواعد المعيارية". إنه تمييز هام في تقديره بالرغم من أن إيحاءاته الكانطية قد لا تخفى على أحد(73). والجدير بالذكر هاهنا أن أهميته تعود بالضبط إلى تمكنه من التفريق بين نوعين من القواعد: فالقواعد المعيارية هي تلك التي تتولى تنظيم نشاط يكون وجوده مستقلا من الناحية المنطقية عن القواعد التي تسيره؛ في حين أن القواعد التكوينية هي تلك التي تتولى تنظيم نشاط يكون وجوده تابعا من الناحية المنطقية للقواعد التي تضبط سيره. فضلا عن هذا، فإن سورل يرى بأن خلق القواعد التكوينية بمقدوره توليد أشكال جديدة من السلوك اللساني(74). فإذا عدنا إلى التمييز السابق الذي وضعه فيتجنشتين للتفريق بين القواعد التحكمية والقواعد غير التحكمية، وجدنا أن "القواعد المعيارية" عند سورل توافق، إلى حد كبير، القواعد التحكمية عند فيتجنشتين؛ في حين توافق "القواعد التكوينية" ما سماه فيتجنشتين "القواعد غير التحكمية"(75).

هذه إذن لمحة وجيزة عن إحدى الجوانب التي استأثرت باهتمام "فيتجنشتين الأخير". والواقع أننا لن نتوقف في تكوين صورة شاملة عن فلسفته الثانية إذا أسقطنا من حسابنا جانبا آخر ما انفك فيتجنشتين يوليه عناية ملحوظة: نعني مسألة "اللغة الخصوصية" التي تعد بدورها واحدة من نقط الخلاف الكبيرة بين شراح فيتجنشتين. فهي، من دون ريب، من بين المسائل الرئيسية التي تعكس توجهاته الفلسفية الأخيرة؛ ولذلك فقد لا نكون مغرضين في تأويلنا إن نحن وضعناها في نفس مرتبة نظرية ألاعيب اللغة.

8- العالم الذهبي ومسألة اللغة الخصوصية:

ما من شك في أن النقد الذي وجهه فيتجنشتين للتصورات الجاهزة التي حملها الفلاسفة على اللغة، كان في مجمله نقدا يهدف إلى تعرية الخلفيات "الميتافيزيقية" التي حددت منطلقات الفلسفة. وبالرغم من أن استخدامه لمفهوم "الميتافيزيقا" يحتاج بدوره إلى وقفة طويلة لتعيين مجالاته والتعريف بحدوده، فإن المقصود بهذا النقد ليس بالضرورة حمل الفلاسفة على الامتثال لدعاوى الاتجاه الوضعي، ولا الدفع بهم إلى الأخذ بالأطروحات "التجريبية" بديلا لأطروحاتهم المثالية كما قد نظن للوهلة الأولى. إن المقصود به هو بيان أن القضايا الميتافيزيقية الكبرى التي خاضت فيها الفلسفة هي في جوهرها قضايا لغوية، أو لنقل: إنها سوء فهم لكيفيات صياغة اللغة.

قد يصعب علينا هنا حصر جميع المظاهر التي مثلت بحق نقد فيتجنشتين للميتافيزيقا لأن المقام لا يتسع للقيام بذلك، لكن هذا لا يمنعنا من الإشارة إلى مظهر واحد من هذا النقد: نقصد نقد فيتجنشتين للقضايا اللغوية التي تطرح بدلالات ذهنية، وسعيه في المقابل إلى فضح مقتضياتها الميتافيزيقية. فمن المعلوم أنه قد تصدى لكثير من الأطروحات التي تولت تحديد "الوعي" كما لو أنه نشاط "روحي" "داخلي".

وهذا ما دعا جاك بوفريس إلى تخصيص كتابه أسطورة الدواخل لإيضاح حيثيات نقد فيتجنشتين للنزعة الذهنية-السيكولوجية. فهو يرى فيه نموذجا للفيلسوف الذي يقف ضد فلسفة الوعي وضد فكرة الكوجيطو، واضعا إياه على الطرف النقيض من ديكارت وهوسرل. لذلك يقول: "إن فلسفة فيتجنشتين هي بلا ريب مثال نموذجي لما يمكن تسميته فلسفة المفهوم [أو التصور] في تعارض مع فلسفة الوعي"(76).

وكيفما كان الحال، فسواء أشاطرنا هذا الرأي الذي يذهب إليه بوفريس أو اعتبرناه، في القسم العظيم منه، امتدادا لنقد الكوجيطو الذي جعلت منه الفلسفة الفرنسية محورا أساسيا أثناء هيمنة الاتجاه البنيوي وبعد خفوته(77)، سواء أقلنا إذن بهذا الرأي أو ذاك فإننا لا نملك إلا تأكيد استئثار مسألة "النزوع الذهني" باهتمام فيتجنشتين.

لسنا بحاجة إلى التذكير بأن فلسفته الثانية ما انفكت تفسر قضايا الميتافيزيقا بهذا الاعتقاد الذي ينصب خلف ما هو ظاهر فعالية "داخلية" و"مختفية". فليس من العسير أن نرى في نقده لهذا الاعتقاد مؤشرا واضحا لنقد الأسس "الذهنية" التي صيغت بها مشاكل اللغة ومعها مشاكل الفلسفة. ومن هذا المنظور قد يجوز اعتباره واحدا من أهم الفلاسفة المعاصرين الذين أعادوا مساءلة الأسس المعرفية التقليدية، لكن من منحى مغاير كما سنرى؛ إذ بالرغم من أن هذه المساءلة لم تكن نسقية بنفس القدر الذي لم تكن فيه أيضا خالية تماما من بقايا طروحات تقليدية، فإن فيتجنشتين قد توصل إلى زعزعة كثير من البداهات الفلسفية، وعلى رأسها البداهة التي تجعل المعرفة ضربا من "الرؤية الداخلية" أو "الفحص الذهني" لرصد وقعها على تصورنا للغة. ولعل الكثير من الشذرات التي تكون كتابه في اليقين تنحو هذا المنحى؛ فمن خلال تقريبه بين المعرفة والرؤية يرمي فيتجنشتين إلى نقد هذا التصور التقليدي الذي يجعل من صورة المعرفة استبطانا أو "إدراكا لسيرورة خارجية انطلاقا من أشعة مضيئة تسقطها في عمق العين وداخل الوعي"(78).

وإذا كان يخصص، في نفس الكتاب، حيزا كبيرا لفحص القضايا التي هي على شاكلة "أنا أعرف"، فإننا لا نلبث أن ندرك بأن هاجس فيتجنشتين لغوي بالدرجة الأولى: يتأكد ذلك حين نتبين حرصه على جذب هذه القضايا إلى دائرة ألاعيب اللغة(79). وهذا معناه أن مسألة اليقين تجد عنده سبيلها إلى الحل في منطق اللغة وليس في ما نعتقد أنه يقيني. إنها قضية لغوية وليست سيكولوجية، بدليل أن الحسم فيها يتم على مستوى ألاعيب اللغة، إذ بمقدورنا أن نضيف إلى هذا أن طرح فيتجنشتين لمسألة اليقين يخالف، في العمق، المنظور الذي طرحته بها الفلسفات التقليدية: فاليقين عنده ليس حسا داخليا تفرضه بداهة عقلية كما هو الشأن مع ديكارت بقدر ما هو ضرورة نحوية تمليها قواعد وألاعيب اللغة. وقد لا نجانب الصواب إن نحن ذهبنا إلى حد القول إن طرح فيتجنشتين لقضايا اليقين (التي هي من صنف العبارة "أنا أعرف") ليس طرحا إيستمولوجيا وإنما هو طرح نحوي بالمعنى الخاص الذي يعطيه لكلمة "نحو".

وعلى هذا الأساس، فإن الاحتراز في تقديم التأويل المناسب لأفكار فيتجنشتين يملي علينا عدم المجازفة في إطلاق الأحكام جزافا: فعندما تتطرق المباحث إلى "تجارب معيشية داخلية" كالأحاسيس مثلا، لم يكن هدف فيتجنشتين هو نفيها أو إبطال وجودها. وبنفس القدر فإن إثارته لموضوع النشاط الذهني لم يكن يرمي إلى إبطال وجود حياة ذهنية أو تجربة معيشية داخلية، ذلك لأن الإشكال نفسه يفقد قيمته حالما نخرجه من سياقه النحوي-المنطقي الذي اختاره له فيتجنشتين. وهذا أمر يستوجب في تقديرنا احتياطا مضاعفا كلما فرضت الضرورة المقارنة بين ديكارت وفيتجنشتين، فليس التعارض بين الإثنين بالبساطة التي قد نظن.

وحتى تستقيم هذه الفكرة في ذهننا، يلزم التذكير بأن هذا النقاش يصب في مسألة واسعة تخص "اللغة العمومية" و"اللغة الخصوصية"، إذ من الواضح أن مواقف فيتجنشتين الأخيرة اتجهت إلى تدعيم الطابع العمومي للغة تحت ستار خوضه في منطق الأحاسيس الخصوصية. ولا يخفى في هذا الباب أن تأكيده على مادية اللغة كان ينحو منحى تعزيز طبيعتها العمومية من زاوية دلالية (نحوية) وليس من زاوية إيستمولوجية.

لهذا، فليس من الغرابة في شيء أن تفرد المباحث حيزا واسعا لدحض "الاستعمال الخصوصي" للغة في إطار ما يشتهر على تسميته، لدى المتخصصين في فيتجنشتين، بمسألة "اللغة الخصوصية". فمن المعلوم أن هذه المسألة قد استولت على اهتمامه في فلسفته الثانية، وجهد في بيان صعوبة تحقيقها اعتبارا لأن كل لغة من هذا الصنف (أي من الصنف الذي يروم التعبير عن تجارب داخلية-ذاتية) لن تتوصل قط إلى إفهام الطرف الآخر مواميها، بالنظر لأن كلماتها لن تكون معروفة سوى من قبل الشخص الذي يتكلمها(80).

غني عن البيان هنا أن ما يشغل فيتجنشتين لا يمس إطلاقا واقع هذه الأحاسيس الخصوصية؛ فهو لا يهتم بهذه التجارب الخصوصية في حد ذاتها وإنما بأبعادها المنطقية-الدلالية. وعلى الإجمال، فإن ما يرمي إليه لا يتمثل إطلاقا في نفي العالم الخاص الذي تنطوي عليه هذه التجارب ولا أيضا في إقصاء الحياة الذهنية كما قد يتهيأ لنا للوهلة الأولى؛ إذ أن غاية ما يرمي إليه هو التأكيد على ضرورة وجود إطار لغوي عمومي كخلفية مرجعية لتبليغ أية تجربة خصوصية. والظاهر أن هذا ما يقصده حين يتعمد الحديث عن "نحو كلمة "ألم""(81) وليس عن الإحساس بالألم في حد ذاته. فهو، كما قلنا، لا ينفي وجود "التجربة الخصوصية" بقدر ما ينفي استحالة تبليغها جونما واسطة إطار لغوي عمومي.

إن هذا يرجع بنا مرة أخرى إلى الإشكال النحوي الذي يؤطر قضايا فيتجنشتين. وهو إشكال ينبغي أن نضعه جوما نصب أعيننا حتى نتبين بشكل واضح سياق ومقام معظم هذه القضايا التي قد يرى فيها القارئ المتسرع مسائل مفصولة عن النحو وعن ألاعيب اللغة. بيد أن الأمر غير هذا، ففيتجنشتين -كما رأينا- لا ينتقد الطابع الخصوصي لما تمثله التجارب الخصوصية وإنما ينتقد الطابع الخصوصي لعلاقاتها الدلالية. لهذا فهو لا يرى مانعا من الإقرار بوجود الإحساسات الداخلية في الوقت نفسه الذي يرى من الاستحالة الحديث عن لغة خصوصية للإحساسات الداخلية.

وهكذا، فمن الإغراض الحكم جملة وتفصيلا "بلاديكارتية فيتجنشتين" في شأن مسألة "التجارب الخصوصية". والشاهد عندنا هو أن "فيتجنشتين الثاني" لا يضع الحياة الذهنية موضع تساؤل أو شك لأن دافعه ليس إيستمولوجيا بل نحويا. ويكون ميريل هنتيكا وجاكو هنتيكا على حق حين يعلنان بأن "ما ينتقده فيتجنشتين هنا هو دلاليات ديكارت وليس ميتافيزيقاه"(82). فالتجارب الخصوصية هي إحساسات واقعية في نظر فيتجنشتين، ولا سبيل بالتالي لإقصائها؛ لكن تبليغها بواسطة اللغة يقتضي بالضرورة وجود خلفية لغوية ذات طابع عمومي. إن فيتجنشتين لا ينتقد إذن الأساس الميتافيزيقي لهذه التجارب ما دام يعترف بها كحياة ذهنية. إنه لا يشك في استعمالها "الخصوصي" من طرف الأفراد، بل إن ما يشك فيه هو إمكانية تبليغها بواسطة لغة خصوصية لأن في الأمر استحالة دلالية لا قدرة لنا على رفعها إلا بوضع إطار عمومي للغة. وهذا تأكيد على أن معنى التجارب الخصوصية مقرون بوجود ألاعيب لغوية عمومية.

وعليه، فإنه يتعين على المتكلم الانطلاق مسبقا من إطار لغوي عمومي لكي يتوصل إلى ترجمة إحساساته الداخلية ضمن عبارات مفهومية من قبل الآخرين، أي أن تبليغ التجارب الخصوصية (كالإحساس بألم الأسنان مثلا) يستوجب وجود "إطار لغوي مترابط بين الأشخاص". لكن هذا، في تقديرنا، لا يؤدي بالضرورة إلى القطع برفض فيتجنشتين "لأنا أفكر خالص" مثلما يدعونا بوفريس إلى استنتاج ذلك لأن سياق اللغة الخصوصية واللغة العمومية لا يسير عنده في اتجاه طرح إيبستمولوجي وإنما في اتجاه طرح نحوي. وبهذا، فإن من الصعوبة الإقرار بمعارضة فيتجنشتين للكوجيطو الديكارتي من منطلق رفضه فقط للغة الخصوصية.

خاتمة:

يتضح، بناء على ما تقدم، أن تفكير فيتجنشتين في القضايا الفلسفية الكبرى كان يكتسي في الغالب طابعا نحويا. فإذا تذكرنا بأن النحو عنده هو اللفظ المرادف للدلاليات، سهل علينا حينئذ معرفة الأسباب التي جعلته يتناول "القضايا الميتافيزيقية" باعتبارها مخلة بقواعد التركيب المنطقي للغة. ولسنا نبالغ إن نحن سلمنا بأن نقده للميتافيزيقا قد تم عنده من هذه الزاوية النحوية؛ فحين نقر بهذه الملاحظة سيكون بوسعنا أن نفهم آنذاك بأن طرح فيتجنشتين للقضايا الميتافيزيقية باعتبارها "عديمة المعنى" لا يقاس بافتقادها فعلا للمعنى كما قد يتبادر إلى ذهننا للوهلة الأولى وإنما يقاس بعدم احترامها لمنطق اللغة، أي بخرقها لحدود اللغة وإنجازها لعبارات ذات معنى لكنها "لا تدل" على أي شيء.

وإذا صح أن الرسالة لا تتردد عن نعت القضايا الفلسفية (الميتافيزيقية) بأنها "عديمة المعنى"، فإن هذا لا يسقط عنها المعنى فعليا. فما يرمي إليه فيتجنشتين هو بيان أن الميتافيزيقا تعمد إلى ألفاظ ومفاهيم في مجالات مخلة بمنطق اللغة لا أنها تنتج قضايا بلا معنى وإنما لأنها تستخدم ألفاظا دونما انتباه إلى خلوها من الدلالة. ولنمعن النظر قليلا في تقوله الرسالة: "إن أغلب القضايا والأسئلة التي كتبت عن الأشياء الفلسفية ليست خاطئة وإنما هي عديمة المعنى. ولهذا فنحن لا نستطيع على الإطلاق الجواب عن أسئلة من هذا النوع وإنما نستطيع فقط الإقرار بخلوها من المعنى. إن أغلب أسئلة وقضايا الفلاسفة تعود إلى عدم فهمنا لمنطق لغتنا. (إنها من نفس صنف السؤال الذي يتساءل عما إذا كان الخير مماثلا تقريبا مثلما هو الحال مع الجميل). وليس عجبا أن أعمق المشاكل ليست البتة مشاكل على الإجمال"(83).

والحق أن نعت الرسالة للقضايا الميتافيزيقية بالخلو من المعنى، لا ينبغي أن يحجب عنا ما هو أبعد من منطوق هذا التصريح: فهي لا تقصد هنا غياب المعنى بقدر ما تقصد استعمالها للكلمات بمعنى آخر غير المعنى الذي نستطيع فيه التأكد من المطابقة بين اللفظ والواقعة. ومفهوم المماثل الذي يلجأ إليه فيتجنشتين، هو واحد من بين الأمثلة العديدة التي تعمد إليها الفلسفة في رأيه لاستعمال اللفظ في أوضاع مخلة بقواعد الدلالة، أي في أوضاع لا تناسب نحو اللغة. والشاهد عندنا أن فيتجنشتين نفسه سيعود لاحقا لهذا المثال لتوضيح الفكرة وربما لتعديل مدلول الملاحظة التي أبداها سابقا في الرسالة. ذلك ما توحي به شذرة من كتابه ملاحظات فلسفية: "في جوابنا عن التساؤل حول ما إذا كان الفلاسفة قد نطقوا دائما وحتى الآن باللامعنى، نستطيع أن نقدم الجواب التالي: كلا، إنهم لم يفعلوا ذلك؛ فكل ما في الأمر أنهم لم يلاحظوا أنهم يستعملون نفس الكلمة بدلالات مختلفة جدا. وفي هذا المعنى فإنه ليس بالضرورة من قبيل اللامعنى أن يقال عن شيء ما بأنه مماثل بنفس الكيفية لشيء آخر؛ لأن من يقول ذلك عن اقتناع يقصد في نفس اللحظة شيئا ما بكلمة "مماثل" (ربما يقصد أنهما "متساويان في الكبر")، لكنه لا يعرف أنه يستعمل هنا الكلمة بمعنى آخر غير المعنى الذي يستعمل في حالة 2+2=4"(84).

لا يضيرنا هنا الاعتراض على هذا الاستنتاج بأن يقال لنا: لكن هذا ذاته ما انتهت إليه الوضعية المنطقية مع شليك وكارناب، فقد بينا فيما سبق أن مآل النحو لدى فيتجنشتين لم يكن هو التمييز بين "القضايا الحقيقية" و"أشباه القضايا" و‘نما هو التوكيد على تعدد أنواع ألاعيب اللغة. ولا شك أن هذا التوجه الذي نهجه فيتجنشتين منذ مرحلته الانتقالية، يخالف في العمق الأطروحات الكبرى التي قام عليها تصور الوضعية المنطقية للغة. فبمقدورنا، في هذه الحالة، أن نقول إن نظرية ألاعيب اللغة لم تشكل فحسب أهم وأحدث تصورات "فيتجنشتين الثاني" للغة بل هي أيضا من أقوى النظريات التي تعبر عن معاداته لفلسفة اللغة الوضعية.

وعلى هذا، يصح القول بأن فيتجنشتين قد شرح في بلورة تصوره لألاعيب اللغة منذ اللحظات التي استقام في ذهنه المعنى الخاص الذي أصبح يحمله على النحو، نعني هنا النحو كمجال لدلاليات وليس كمجال للتركيب الداخلي الطي تنبني عليه العبارات.

الهوامش

1) Ludwig Wittgenstein ; philosophische Untersuchungen 203, Ludwig Wittgenstein Werkousgabe Band I, Frankfurt am main, Suhrkam 1990.

- Investigations philosophiques, 203, trad. Française : P.Klossowski, ed. Gallimard/coll. Tel, 1961, (édité avec : Tractatus Logico-philosophicus).

2) Wittgenstein, Remarques sur les fondements des mathématiques, trad. M.A.Lescourret (édition revue et augmentée, éd.Gallimard), 1983, cinquième partie : 53, p.252.

3) Wittgenstein, Ibid., deuxième partie : 23, pp.126-127.

4) Wittgenstein ; philosophisch Untersuchungen (Investigations philosophiques), 116.

5) Wittgenstein, Ibid., 38.

6) لمزيد من الشرح بخصوص هذه المسألة، انظر:

Bertrand Russell, Histoire de mes idées philosophiques, trad. Française : G.Auclair, éd. Gallimard/coll. Tél, 1961, Chap.v, pp.67-80.

7) Wittgenstein, Tractatus Logico-philosophicus, 555.5562, L.Wittgenstein Werkausgabe Band I, Frankfurt am main, Suhrkamp, 1990 (mit : philosophische Untersuchungen).

- Tractatus trad. Française : P.Klossowski (édité avec : Investigations philosophiques, op.cit.).

8) Tractatus, 5.5571.

9) يرفض راسل، كما هو معلوم، الإقرار بالأشياء "البسيطة" رغم تسليمه بوجود وقائع ذرية؛ وهذا يتماشى، إلى حد كبير، مع الصورة التي يكونها حول التحليل. فهذا الأخير يتم في رأيه وفق مراحل متتابعة لا تعرف الانقطاع. لهذا لا يمكن البت نهائيا في وجود أو عدم وجود وحدات لا تقبل القسمة؛ فليس من الإحراج في شيء الانتهاء إلى بنية ذات وحدات مركبة بعد الإقرار بدءا ببساطتها لأن ذلك في نظر راسل أشبه ما يكون بالمثال الرياضي التالي: إنك تستطيع أن تعرف النقط باعتبارها فئات من الواقع؛ ورغم ذلك فهذا لا يفضي إلى بطلان أية مبرهنة من مبرهنات الهندسة التقليدية التي تعالج النقط باعتبارها وقائع بسيطة.

10) Ch. A ce propos : Russell, Histoire de mes idées philosophiques,op.cit., p.279.

11) لن نخوض، في هذه الدراسة، في مقارنة دقيقة بين راسل وفيتجنشتين لأن ذلك يتعدى حدود مقالنا، إذ أن ذلك يتطلب تحديد طبيعة "الموضوعات" التي تتناولها الرسالة وعلاقتها بذرية راسل. حسبنا هنا أن نعرف بأن الرسالة قد استوحت بعض أفكار راسل التحليلية.

12) cf. Tractatus, 4.2211.

13) ينبغي التذكير بأن الأسماء Vamen تحقق في الرسالة المنطقية الفلسفية شرط "البساطة" لأنها "دليل أصلي"؛ وحيث إنها كذلك فإنها من غير الممكن تحليلها إلى أجزاء أبسط منها. فهي إذن لا تقبل التفكيك أو التقسيم بواسطة أي تعريف. وهذا بالضبط ما تقوله الشذرة 3.26 من الرسالة: "لا يمكن للاسم أن يقسم بواسطة أي تعريف "der Name ist durch Keine Definition weiter zu zergliedern إنه دليل أصلي" انظر أيضا الشذرة 3.261.

14) Wittgenstein, Tractatus : Vorwort, S.9 (texte français : préface, p.27.

15) هذا لن يمنع فيتجنشتين من استخدام مفهوم "الترنسندنتالي" Transzendental في الرسالة. ففي الشذرة 6.13 يقول: "إن المنطق ليس مذهبا [أو نظرية] Lehre بل صورة منعكسة للعالم ein Spiegelbild der Welt. إنه ترنسندنتالي". وليس من شك في أن وصفه للمنطق بهذه الخاصية، يرجعنا إلى التعريف الكانطي الذي يطلق اسم الترنسندنتالي على كل معرفة لا تحمل بشكل عام على الموضوعات بل على كيفية معرفتنا لها من حيث هي ممكنة على نحو قبلي. إن ما يثير الانتباه في هذه الشذرة هو أن فيتجنشتين لا يفرق بين المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي، على خلاف كانط الذي يفرق بينهما كما هو معلوم. أما سر ذلك فلا يعود ربما إلى تجاهله لأصل التقسيم الكانطي وإنما إلى إدراجه جميع أنواع المنطق في صنف واحد. ولعل نعت المنطق بكونه "صورة منعكسة للعالم" يحمل جوابا لهذا المشكل. فكل ما هو قبلي من حيث إنه تحليلي، لا يوسع محتوى معارفنا، وقد لا يرقى إلى مستوى معرفة لأنه ليس إلا نتاجا للانعكاس حول المعرفة. لهذا يربط فيتجنشتين في الشذرة السابقة بين الطابع الترنسندنتالي للمنطق وبين كونه "صورة منعكسة للعالم". ولعله يأخذ بنفس التصور حين يقول في الشذرة 6.421 بأن الأخلاق لا يمكن أن تعبر عن نفسها بنفسها es est Klar, dass sich die Ethik nicht aussprechen, lässt؛ فهي إذن ترنسندنتالية شأنها في ذلك شأن الإستطيقا. أما تفسير ذلك فنجد قسما منه في الشذرتين 6.41 و6.42 حيث يبين بأن قضايا الأخلاق والإستطيقا "تقيم خارج كل حدث وكل وجود بما هو كذلك" ausserhalb alles Geschehens und So-Seins liegen وبالتالي خارج العالم. وهذا هو الذي يبرر لجوءه إلى مفهوم "الترنسندنتالي": فمتى علمنا أن قضايا الأخلاق والإستطيقا والمنطق لا تساهم في معرفة الوقائع التجريبية لأن اهتمامنا بها ينحصر عند حدود كيفية معرفتنا لها، ولا يتعداها إلى وقائع وموضوعات العالم، متى علمنا ذلك فقد أدركنا طابعها الترنسندنتالي.

16) Wittgenstein, Tractatus, 5.62.

17) Wittgenstein, Grammaire philosophique, trad. Fran.: M.-A.Lescourret, éd. Gallimard, 1980, VI, 71, p.p.123-124 (Nous soulignons).

18) Wittgenstein, philosophische Untersuchungen, 119.

19) فعلا، تثير الشذرة 119 من المباحث الفلسفية كثيرا من النقاش في أوساط المتخصصين في فيتجنشتين. ويكفي الوقوف هنا، بشأن هذه الشذرة، على التعارض الواضح بين قراءة غارت هاليت Garth Hallett وقراءة ميريل ب.هنتيكا Merril B.Hintikka وجاكو هنتيكا Jaakko Hintikka: فهذه الشذرة تدل حسب غارت هاليت على تخلي فيتجنشتين في فلسفته الثانية عن فكرة "حدود اللغة" وإدراجها ضمن هفوات الرسالة. أما تعليله لهذه القراءة فيستند على وجود ارتباط قوي بين أطروحة "حدود اللغة" وبين القول بوجود قواعد منطقية ولسانية صحيحة ضابطة للغة؛ والرسالة تؤكد في تصوره هذا الارتباط لأنها تجعل من "حدود اللغة" مفعولا لوجود قواعد منطقية سليمة ودقيقة. أما المباحث الفلسفية فهي تتخلى في رأيه عن الدفاع عن فكرة القواعد الدقيقة؛ مما يدعو غارت هاليت إلى استنتاج آخر مفاده أن فيتجنشتين قد تخلى، في فلسفته الثانية، عن أطروحة حدود اللغة لأن القول بهذه الأطروحة لا ينسجم مع القول بانتفاء قواعد دقيقة للغة. هذا الاستنتاج هو الذي يرفضه جاكو وميريل هنتيكا لأنهما لا يريان تبريرا لتأويل غارت هاليت، سيما أنهما يدرجان "حدود اللغة" ضمن "لا تعبيرية القواعد الدلالية" l’ineffabilité des règles sémantiques وليس ضمن القواعد التي تضبط لغة صحيحة وسليمة على المستوى المنطقي.

21) Wittgenstein, Tractatus, 4.15.

22) يدل الفعل الألماني Zeigen على معنى الإشارة إلى الشيء كأن يشير المرء بيده إلى موضوع معين ليدل الآخر عليه؛ وهذا حال الشخص الذي يدل شخصا آخر على الطريقden Weg zeigen. كما يدل أيضا على معنى "الإظهار" و"الإبراز" كحال الشخص الذي يكشف ويفصح عن سعادته seine Frende zeigen. ونحن نظن أن فيتجنشتين يستعمل فعل zeigen بهذين المعنيين معا.

23) Wittgenstein, Tractatus, 4.121.

24) cf Merril B. Hintikka et Jaakko Hintikka, Investigations sur Wittgenstein, trad. de l’anglais : M.Jawerbaum et Y. Pesztat, éd. Mardaga, 1991, Liège, Chap. I : particulièrement p.p.26-30.

25) Ch. Tractatus, 5.524.

26) cf Merril B. Hintikka et Jaakko Hintikka, Investigations sur Wittgenstein, op.cit., p.p.29-30.

27) Tractatus, 6.522.

28) لتفصيل الحديث عن "صوفية" الرسالة، يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى:

Jacques Bouveresse, Wittgenstein : La Rime et la Raison: « Mysticisme et logique », éditions de Minuit, 1973, p.p.21-72.

29) Tractatus, 6.44.

30) Ibid, 6.54.

31) Wittgenstein, Remarques philosophiques, trad. J.Faure, éd. Gallimard/coll. Tel, Chap. V, 54, p.82.

32) يقول فيتجنشتين: "إذا كان لا شيء يشد انتباهنا حين ننظر حولنا أوحين نتنقل في المكان داخل الأرجاء التي تحيط بنا أوحين نحس جسدنا، فهذا شيء يبين إلى أي حد تبدو لنا هذه الأشياء طبيعية [...] إننا لا نفكر فيها على الإطلاق -وهذا أمر مستحيل مع ذلك- لأنه لا توجد صورة مناقضة تتعارض مع صورة عالمنا" (Wittgenstein, Remarques philosophiques, op.cit., Chap. V, 47.).

33) Wittgenstein, Remarques philosophiques, Chap. V, 54, p.83.

34) Wittgenstein, Ibid., Chap. V, 47, p.p.78-79.

35) اطلعنا على هذا التصور الذي تبناه ماسلاو من خلال الخلاصة المقتضية التي قدمها عنه جاك بوفريس Jacques Bouveresse، انظر:

Jacques Bouveresse, Wittgenstein : La Rime et la Raison, op. cit., p.p.59-61.

36) هناك فعلا كثير من التأويلات التي قدمت لتفسير أسباب إدراج نزعة "الانعزال الذاتي" من قبل الرسالة، وهي تأويلات من التباين بحيث يبدو فيها فيتجنشتين تارة مدافعا عن هذه النزعة وتارة أخرى معاديا لها. وإذا اقتصرنا على نموذجي جاكو هنتيكا وجاك بوفريس فسنرى بأن هنتيكا يدرج هذه النزعة ضمن تصور يقضي بأن موضوعات المعرفة تلعب دورا حاسما في أنطولوجيا الرسالة لأنها تضع حدود عالم الذات. أما بوفريس فهو يربط هذه النزعة بمسألة "اللغة الخصوصية" التي ستكون لنا فرصة العودة إليها في مسار هذه الدراسة لكن من زاوية مستقلة عن نزعة "الانعزال الذاتي".

37) Tractatus, 5.63.

38) Ibid, 5.62.

39) cf. Ibid, 5.634.

40) cf. Ibid, 5.64.

41) Wittgenstein ; Investigations philosophique, op.cit., chap. VI, 72.

42) Wittgenstein, Grammaire philosophique, op.cit., chap. VI, SS :72.

43) Cf. Wittgenstein, Ibid., Chap. VI, 77.

44) يرى كل من جاكو هنتيكا وميريل هنتيكا أن رفض فيتجنشتين للغة الورائية هو نتيجة لاقتناعه بشمولية وكونية اللغة. فحيثما أقررنا بأن اللغة واسطة كونية، فإن من غير المجدي الإقرار بحاجتنا إلى لغة ثانية لوصفها. وهذه الأطروحة، التي يدافع عنها هذان الباحثان، تتمتع مع ذلك بتماسك منطقي قوي بالرغم من أن بعض نصوص فيتجنشتين قد تفسح المجال لأكثر من تأويل. انظر:

Merril B. Hintikka et Jaakko Hintikka, Investigations sur Wittgenstein, op.cit., p.p.43-46.

45) Wittgenstein, Le cahier bleu, édité ensemble avec : Le cahier brun, trad. de l’anglais : G.Durand, éd. Gallimard/coll. Tel, 1965, p.85.

46) حين يميز فيتجنشتين بين ما يقال وما يكتفى بإظهاره أو الإشارة إليه، لم يكن يقصد إطلاقا الاعتراف بأن اللغة تخفي شيئا من "النقص"، تماما مثلما أنه لم يكن يهدف إلى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية- بقلم: جمال أردلان ج01
»  الفلسفة التحليلية وسؤال اللغة
» سؤال للدكتور .عبدالواحد مشير دزةيى
»  الفلسفة السياسية ومسألة العنف
» الفلسفة التحليلية لفيصل الهاجري

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين  ::  اللسانيات النظرية :: علم الدلالة والتخاطب (التداولية)-
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

قم بحفض و مشاطرة الرابط منتديات تخاطب: ملتقى الفلاسفة واللسانيين واللغويين والأدباء والمثقفين على موقع حفض الصفحات
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم


   فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- جمال أردلان ج02 561574572

فانضموا إليها

Computer Hope
انضم للمعجبين بالمنتدى منذ 28/11/2012
سحابة الكلمات الدلالية
الخيام محمد قواعد مجلة على موقاي بلال الحذف مدخل العربي النحو الخطاب ننجز النص النقد التداولية المعاصر البخاري كتاب الأشياء ظاهرة العربية مبادئ اللسانيات اسماعيل اللغة


حقوق النشر محفوظة لمنتديات تخاطب
المشاركون في منتديات تخاطب وحدهم مسؤولون عن منشوراتهم ولا تتحمل الإدارة ولا المشرفون أي مسؤولية قانونية أوأخلاقية عما ينشر فيها

Powered by phpBB© 2010

©phpBB | Ahlamontada.com | منتدى مجاني للدعم و المساعدة | التبليغ عن محتوى مخالف | آخر المواضيع