كتب د. أحمد الخضري (في صفحة : التداولية بيد يديك )

المنحى العرفاني في الفكر النحوي العربي
أمثلة جزئية وموجهات كلية
أحد أهم النتائج التي توصلت إليها العرفانية (cognitive linguistic) هي اعتماد التواصل اللغوي على الخبرة المكتسبة من التجربة الجسدية، أو ما عُرِفَ بـ (جسدنة اللغة)؛ حيث يعتمد التواصل اللغوي إنتاجًا وتلقيًا على الـ (مَقْوَلَة المفهومية) من جهة والـ (خطاطات الذهنية) من جهة أخرى، وكلاهما نتاج (التجربة) الجسدية بامتياز، ولعل ما قدمته الـ (جشطلت) يكشف بوضوح عن مدى تمثُّل الذهن للجسد في منتوجه اللغوي.
وإننا لنلمس هذه (الجسدنة) في التصور النحوي للـ (العلامة الإعرابية)، كأحد أهم محاور النحو العربي؛ حيث إننا لا نفتأ نقع على أربع مقاويل تنتظم فيها العلامة الإعرابية، وهي: (الرفع، والنصب، والجر، والجزم)، وجلي أن (حركة اللسان) مع الشفتين هي التي منحت العلامة الإعرابية هذه المقولة المفهومية، ليس هذا فحسب، بل إن هذه المقاويل تنتظم فيما بينها خطيًّا، على مستوى التركيب، من خلال خطاطة (القوة) أو ما أطلق عليه (العامل)، لنجد أنفسنا أمام تصور عرفاني بامتياز.
إن اللافت هنا هو ارتباط العلامة الإعرابية بالـ (معنى)، ارتباطًا سيميائيًّا، ينتج عنه (الأثر) الخطابي أو (الفعل الخطابي)، ومن خلال ما أشرت له من تصور عرفاني للعلامة الإعرابية، يتضح أن الفعل الخطابي يعتمد على بنية (ما قبل مفهومية) بدونها لن يتحقق المعنى ومن ثم الفعل الخطابي.
لعل طرحًا مثل هذا يكشف عن علة انفصال (الحركة) عن (الحرف) في المكتوب العربي؛ حيث إنه ينسجم مع ذلك التصور لما قبل المفهومية – المقاويل والخطاطات الذهنية – المسؤلة عن التواصل، والتي (تحيل) إليها العلامة الإعرابية.
وحقيق بنا أن نشير إلى أن طرحًا مثل هذا خاضع بامتياز إلى (المتغير الثقافي) الذي ينتج عنه بالضرورة تغيرًا في الدلالة والتداول، الأمر الذي يؤثر بدوره على اللغة؛ حيث إنها تخضع إلى تطور مستمر نحو التنميط دلاليًّا أو تداوليًّا وبمراتب. ولعل هذا ما يفسر ضمور الجانب العرفاني التداولي للعلامة الإعرابية في الدوارج العربية الحالية.